بعد أن بلغت الدولة العباسية أوج التقدّم والتمدن في خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون الذي ترجمت في أيامه أغلب كتب اليونان وتقدّمت العلوم تحت وارف ظلها تقدّماً لم تبلغه الدول الإسلامية (2) قبل عصره أخذت الدولة في التقهقر شيئاً فشيئاً تبعاً لناموس الحياة الطبيعية القاضي بالهرم بعد الشبيبة، سنة الله في خلقه (3) ولن تجد لسنة الله تبديلا . واستمر الانحلال ينخر عظامها حتى انها سقطت بسقوط دار السلام (4) في قبضة قبائل التتار في ٢٠ محرم سنة 656 هجرية 1258 م وقتلهم الخليفة المستعصم بالله آخر العباسيين ببغداد بعد أن لبثت دولتهم زيادة عن خمسة قرون دعامة التمدن الاسلامي.

ومن ثم لم يكن للإسلام بعدها دولة عظيمة تحمي بيضته وتضم أشتاته بل ضاعت وحدته الملكية واستقل كل حاكم بما وكل إليه أمره من الأقاليم. واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن قيض الله للاسلام تأسيس الدولة العلية العثمانية فجمعت تحت رايتها أغلب البلاد الاسلامية وفتحت كثيرا من الاقاليم التي لم يسبق تحليها بحلية الدين الحنيف، وأعادت للاسلام قوّته وأعلت بين الأنام كلمته.

ومؤسس هذه الدولة هو أرطغرل بن سليمان شاه (5) التركماني قائد إحدى قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى ، وذلك أنه كان راجعاً إلى بلاد العجم بعد موت أبيه غرقاً عند اجتيازه أحد الأنهار إذ شاهد جيشين مشتبكين فوقف على مرتفع من الأرض ليمتع نظره بهذا المنظر المألوف لدى الراحل من القبائل الحربية، ولا آنس الضعف في أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه إن لم يمدّ إليه يد المساعدة دبت فيه النخوة الحربية ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة أضعف الجيشين وهاجم الجيش الثاني بقوة وشجاعة عظيمتين حتى وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر ، لولا هذا المدد الفجائي ، وأعمل فيهم السيف والرمح ضرباً ووخزاً حتى هزمهم شر هزيمة وكان ذلك في أواخر القرن السابع للهجرة .

وبعد تمام النصر علم أرطغرل بأن الله قد قيضه لنجدة الأمير علاء الدين قيقوباد سلطان السلاجقة الروم وعاصمتها قونية التى تأسست عقب انحلال دولة آل سلجوق بموت السلطان (جلال الدولة ملك شاه) في 15 شوال عام 485 هجري (18 نوفمر عام 1092 م) (6) فكافأه السلطان علاء الدين قيقوباد على مساعدته له بإقطاعه سوغوت على حدود بيزنطه وصار لا يعتمد في حروبه مع مجاوريه إلا عليه وعلى رجاله. وكان عقب كل انتصار يقطعه اراضي جديدة ويمنحه أموالا جزيلة ثم لقب قبيلته قايي بمقدمة السلطان لوجودها دائما في مقدمة الجيوش وتمام النصر على يديه. وفي غضون ذلك تزوج عثمان أكبر أولاد أرطغرل ببنت رجل صالح وهو أديب علي كان رآها مصادفة عند والدها وتعلق بها ولكن أبى والدها أن يزوجها له فحزن عثمان لذلك وأظهر الصبر والجلد ولم يرغب الاقتران بغيرها حتى قَبل أبوها بعد أن قص عليه عثمان مناماً رآه ذات ليلة في بيت أديب علي، وهو أنه رأى القمر صعد من صدر هذا الشيخ وبعد أن صار بدراً نزل في صدره أي في صدر عثمان ثم خرجت من صلبه شجرة نمت في الحال حتى غطت الأكوان بظلها، ونظر أكبر الجبال تحتها، وخرج النيل والدجلة والفرات والطونة (7) من جذعها ورأى ورق هذه الشجرة كالسيوف يحولها الريح نحو مدينة القسطنطينية (اسطنبول).

فتفاءل الشيخ من هذا المنام وزَوجه ابنته، ومع اعتقادنا أن هذا المنام لا بد أن يكون موضوعاً كما يضع المؤرخون مثل هذه الأحلام لتعليل ظهور وتقدم كل دولة سواء كان في ممالك الشرق أو الغرب، فقد ذكرناه تتميماً للفائدة. وقبل أن يتزوجها عثمان كان قد طلبها أمير أسكي شهر (8) فرفض والدها طلبه فحنق على عثمان لما تزوجها وأراد أن يفتك به فهاجمه في قصر أحد مجاوريه وطلب من صاحب القصر أن يسلمه إليه فأبي ثم خرج عليه عثمان ومن معه ورده على عقبه، وأسر كوسه ميخائيل أحد من كان معه من الأمراء، ولكثرة إعجاب هذا الأمير بشجاعة عثمان تعلق به وصار من أخصائه ثم أسلم وبقيت ذريته مشهورة في تاريخ الدولة باسم عائلة ميخائيل أوغلى (9).

ولما توفي أرطغرل سنة 987هـ الموافقة سنة 1288م عين الملك علاء الدين قيقوباد الغازي عثمان مكان والده لشجاعته وأصبح هو مؤسس الدولة العلية العثمانية. وفي هذه السنة ولدت زوجته مال خاتون (10) ولداً ذكراً وهو أورخان ولم يلبث عثمان أن تحصل على امتيازات جديدة عقب فتحه قلعة كاراجاهيسار “قره حصار” (11) سنة 688 هجرية الموافقة سنة 1289 ميلادية فمنحه الملك في السنة المذكورة لقب (بك) وأقطعه كافة الأراضي والقلاع التي فتحها وأجاز له ضرب العملة وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة، وبذلك صار عثمان بك ملكاً بالفعل لا ينقصه إلا اللقب.

وفي سنة 1300 م تقريباً الموافقة سنة 999ه أي السنة المتممة للقرن السابع من التاريخ الهجري (12) أغارت جموع التتار على بلاد آسيا الصغرى وفيها كانت وفاة علاء الدين قيقوباد آخر السلجوقيين بقونية، قيل قتله التتر وقيل قتله وَلده (غياث الدين كيخسرو الثاني) طمعاً في الملك، ولكن قتل التتار غياث الدين أيضاً فانفتح المجال لعثمان فاستأثر بجميع الأراضي المقطعة له ولقب نفسه (باد شاه آل عثمان) وجعل مقر ملكه مدينة سوغوت (13) وأخذ في تحصينها وتحسينها ثم أخذ في توسيع دائرة أملاكه فأخذ أزميد (14) ثم إزنيك. وحاول فتح بورصه، ولما لم يتمكن من فتحها عاد إلى عاصمته واشتغل في تنظيم البلاد حتى إذا أمن اضطرابها وتجهز للقتال أرسل إلى جميع أمراء الروم ببلاد آسيا الصغرى يخيرهم بين ثلاثة أمور: الإسلام أو الجزية أو الحرب، فأسلم بعضهم وانضم إليه، وقبل البعض دفع الضرائب، واستعان الباقون على السلطان عثمان بالتتار واستدعوهم لنجدتهم لكن لم يعبأ بهم السلطان عثمان بل هيأ لمحاربتهم جيشاً جراراً تحت إمرة ابنه أورخان فسار إليهم هذا الشبل ومعه عدد ليس بقليل من أمراء الروم ومن ضمنهم كوسه ميخائيل صديق عثمان الذي اختار الاسلام ديناً و بعد محاربة عنيفة شتت شمل التتار وعاد مسرعاً لمحاصرة مدينة بورصة (15) فحاصرها سنة 717 ه الموافقة سنة 1317 م . وللتمكن من فتحها بسهولة هاجم حصن أردنوس الكائن على قمة جبل أولمب (16) فدخله عنوة ثم دخل مدينة بورصة بعد أن فتح كافة ما حولها من القلاع والحصون وحاصرها نحو عشر سنوات من غير ما حرب ولا قتال، إذ أرسل ملك القسطنطينية أوامره لعامله على هذه المدينة بالانسحاب فأخلاها ودخلها أورخان وعساكره ولم يتعرض لأهلها بسوء مقابل دفع ثلاثين ألف من عملتهم الذهبية ، وأسلم حاكمها (أفرينوس) وأعطى له لقب بك وصار من مشاهير قواد العثمانيين . تابع القراءة هنا

الملحق

(1) من التقاليد التي يجب أن تعرف والتي طويت مع انتهاء حياة السلطنة العثمانية ولكنها ستظل محفوظة في الكتب هى أن لقب تشريف الملوك وأفراد الأسرة المالكة كان لفظ (أفندي) الذي يعنى (السيد) وهذا اللفظ كان يطلق، زمن الدولة العثمانية، على كل مواطن لا يحمل ألقاباً تشريفية أخرى مثل لفظ ( بك ) و(باشا) ولا زال لفظ أفندي مستعملاً ، بصورة غير رسمية، في بعض البلاد العربية التي كانت تشكل جزءاً من الدولة العثمانية. أما السلطان فإنه كان يخاطب أو يذكر في غيبته بلفظ ( بادشاه أفندي مز) أي سيدنا السلطان ولكن لقبه الرسمي ولا سيما في المكتبات فهو لفظ ( خان ) فيقولون: عبد الحميد خان، ووحيد الدين خان الخ. ولفظ ( خان ) لفظ تركي قديم معناه ( السيد ) ولا يزال هذا اللفظ هو لفظ التشريف الوحيد لكل مواطن في أفغانستان ويتمتع به بقايا من الناس في الهند وباكستان . وكما كان يوجد في الدولة العثمانية لقب ( بكلر بك ) ، يلفظ بيلر به ، أي بك البكوات أو سيد السادات ، ويوجد حي في استانبول بهذا الاسم ، فإنه كان يوجد في البلاد التى تستعمل لفظ خان لقب ( خان خانان ) أي سيد السادات أيضاً. وكان أولاد السلاطين العثمانيين يخاطبون بلفظ أفندي إلا إذا منحوا لقباً يوجبه العمل الحكومى الذي انيط بهم.

(2) قال : الدول الاسلامية، والحقيقة هي انه لم يكن يوجد قبل العباسيين الا دولة الأمويين ودولة الخلفاء الراشدين من الدول الاسلامية.

(3) إن كلمة ( ناموس الحياة) الذي يطلقه بعض الناس خطأ على الدول تشبيهاً لها بالكائنات الحية ذات الأعمار المحدودة ، هو تشبيه غير واقعي لأن الدول كالأنهار تستمد حياتها من الأجيال الجديدة المتدفقة في نهر الحياة ، فإذا كانت هذه الأجيال حية جادة نشيطة منصرفة الى العلم والعمل جددت بلادها كما يجدد ماء النهر المتدفق حياة النهر لحظة بعد لحظة ولا يموت النهر الا اذا انقطع الماء، وكذلك لا تموت الدول الا اذا كانت الاجيال المنبعثة اجيالا غير صالحة للحياة فتموت ليرث الله الارض اجيالا صالحة . فالدول تعيش ما دام الكون قائماً اذا كانت هذه الدول تعمل في نطاق عقيدة سامية ونظام معقول يساير الزمن ويخدم العلم ويماشي العقل والمنطق ولا يموت من الدول الا التي تنحرف عن هذه المبادىْ.

(4) هي مدينة بغداد ولا أزيدك بها علماً، أسسها الخليفة أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين وشرع في تخطيطها سنة ه١٤ه وأتم بناءها سنة 149ه، وهي قائمة على ضفتي نهر الدجلة تبعد عن مصب نهر شط العرب المكون من نهري الدجلة والفرات في الخليج الفارسي بنحو خمسمائة ميل. وقد سمي الجانب الشرفي منها بالرصافة والغربي بالكرخ ثم تمت وارتقت في أيام العباسيين خصوصا هارون الرشيد والمامون الذي انشا فيها مرصدا فلكياً وبلغ عدد سكانها سنة ٢١٦ ه نحو مليونين من النفوس .

(5) شاه معناه ملك ولكنه اذا جاء بعد الاسم فإنه يعني السيد كما أن مسلمي الهند وباكستان يطلقونه على أولاد فاطمة للتعظيم .

(6) لما سقطت دولة السلجوقيين تجزأت أملاكهم في بلاد الأناضول الى عشر امارات صغيرة وهي قرهسي وصاروخان وآيدين وتكه والحميد والقرمان وكرميان وقسطموفي ومنتشا وقونية ، ثم ضمت بالفتح الى مملكة آل عثمان .

(7) نهر الطونة ويسمى بالألمانية (دوناو) Danau ويسمى بالافرنسية (دانوب) وهو ثاني انهار أوربا بعد نهر الفولك ، اذ يبلغ طوله ٢٨٥0 كيلومتراً، وينبعث من المانيا الغربية ويمر بالنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوكوسلافيا ورومانيا وبلغاريا وروسيا ويصب في البحر الأسود.

(8) أسكي شهر : معناها البلد القديم ، وهي بلدة قديمة تقع في وسط بلاد الأناضول وعلى مفترق طرق الى غرب أنقره.

(9) أوغلي : معناها الأبن وحيث أنه لم يكن للعثمانيين أسماء أسر أي ألقاباً فانهم كانوا ينتسبون الى آبائهم مثل: علي أوغلي، كامل أوغلي أي ابن علي وابن كامل أو ينتسبون الى بلدانهم مثل استانبوللي وأزميرلي، أي استانبولي وازميري . ولا تزال بعض الأسر في البلاد العربية تحتفظ بنسبتها مثل موره لي ، وائلي ، كركوتلي ، اورفلي الخ .

(10) خاتون معناها امرأة ولكنه يطلق غالباً على المرأة ذات الشأن أي السيدة كما تطلق على زوجات العظماء .

(11) يوجد بضعة أماكن في تركيا باسم قره حصار أي القلعة السوداء ولكن القصد هنا قلعة قره حصار (كاراجاهيسار) الأثرية القريبة من إسكي شهر وسط الأناضول .

(12) من الغريب أنه في رأس كل قرن من الهجرة ظهر رجل كان له شأن في التاريخ الاسلامي ففي رأس القرن الأول كان ظهور الاسلام وانتشاره بين كفار العرب، وفي سنة ٩٩ه أي في رأس القرن الثاني تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز الأموي المشهور، وفي سنة ١٩٧ بويع بالخلافة المأمون بن هارون الرشيد، وفي أوائل القرن الرابع أسس عبدالله المهدي عائلة الفاطميين في افريقيا، وكانت الأربعون سنة التي مكثها القادر بالله أبو العباس – . في الخلافة مشتركة بين القرن الرابع والخامس.

(13) يكي شهر : تلفظ الكاف هنا نوناً فهي ، اذن ، يني شهر ومعناها البلد الحديث ويكتبها الأتراك الآن هكذا Venisehir وتقع الى الشمال الشرفي من بورصه .

(14) هي مدينة قديمة يونانية بآسيا الصغرى أصل اسمها (نيكوميدس) كانت تختاً لمملكة (بونينيا) واقعة على بحر مرمره ويدخل ميناءها أكبر السفن وبها مياه معدنية ومعامل للحرير. وأنشئت منها سكة حديدية تصل الى بورصة ويبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة ، أقول : وكان الأتراك يكتبونها بالتاء أيضاً ( أزميت ) لأنهم لا يفرقون في اللفظ بين الحرفين ويكتبونها الآن Izmit . و مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى أصل اسمها (نيقه) واقعة شرق بورصة بنحو 80 كيلومتر وهي شهيرة بعمل الخزف والسجاد المتقن.

(15) مدينة باسيا الصغرى شهيرة بجودة هوائها وجمال مناظرها الطبيعية وبها مياه عديدة شافية لكثير من الأمراض ويرحل إليها في زمن الصيف كثير من الأغنياء لترويح النفوس وإراحة الابدان، وفيها تلفريك طوله ثلاثة كيلومترات، يصعد من أسفل الجبل الى رأسه ثم يسير الى جبل آخر وراءه ، وقد ظلت بورصة عاصمة الدولة العثمانية من سنة 1327 الى سنة 1361 ثم انتقلت العاصمة الى ادرنة ثم الى استانبول سنة 1453.

(16) واسمه بالتركية ( أناطولي طاغ) أو (كشيش طاغ) وهو غير جبل أولمبوس الذي كان يعتقد اليونان انه مسكن آلهتهم الكائن بتركية أوروبا على حدود بلاد مقدونية. طاغ بالتركية معناها الجبل وقد كتب داغ لان الاتراك يلفظون الطاء بين الضاد والدال . وكشيش لفظ فارسي معناه القسيس ويسمى هذا الجبل اليوم اولو طاغ Ulu Dag اي الجبل الكبير.

المراجع

تاريخ الدولة العثمانية العلية إبراهيم بك حليم