وعقب ذلك بقليل استدعي أورخان إلى والده فوجده في حالة النزاع ولم يلبث أن أسلم الروح إلى بارىء النسمات ومبدع الكائنات بعد أن أوصى للملك بعده لأورخان ثاني أولاده المولود في سنة 1281 لاتِّصافه بِعُلو الهمة والشجاعة والاقدام ولم يوص بها لبكر أولاده علاء الدين لميله إلى الورع والعزلة، وتوفي رحمه الله في 21 رمضان سنة 726 هجرية ٢١ آب – أغسطس 1326 م عن سبعين سنة قضى معظمها في تأسيس هذه الدولة الفخيمة الملحوظة بعين العناية الربانية وتوسيع نطاقها، ودفن في مدينة بورصة وبلغت مدة حكمه 37 سنة. ومن حسن حظ هذه الدولة أن علاء الدين لم يعارض في هذه الوصية التي حرمته من ملك عظيم بل قبلها مقدّماً الصالح العام على الصالح الخاص واكتفى بوزارة المملكة وهي الوظيفة التي سميت لاحقاً “الصدارة العظمى” التي قلده إياها أخوه أورخان، فاختص علاء الدين بتدبير الأمور الداخلية وتفرغ أورخان للفتوحات ونشر الراية العثمانية على كل ما وصلت إليه يداه من البلاد المجاورة.
ومن أهم أعمال علاء الدين أن أمر بضرب العملة من الفضة والذهب ووضع نظاما للجيوش المظفرة وجعلها دائمية إذ كانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب وتصرف بعده، ثم خشي من تحزب كل فريق من الجند إلى القبيلة التابع إليها وانفصام عرى الوحدة العثمانية التي كان كل سعيهم في إيجادها فأشار عليه أحدُ دُهاةِ ذلك العصر واسمه (قره خليل)، وهو الذي صار فيما بعد وزيراً أولاً باسم خير الدين باشا، بأخذ الشبان من أسرى الحرب وفصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسيتهم وأصلهم وتربيتهم تربية اسلامية عثمانية بحيث لا يعرفون أباً إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم معهم، فأُعجب السلطان أورخان بهذا الرأي وأمر بانفاذه ولما صار عنده منهم عدد ليس بقليل سار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية (1) ليدعو لهم بخير فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر على الأعداء وقال فليكن اسمهم (يني تشارى ) ويرسم بالتركية هكذا ( يكيجارى ) (2) أي الجيش الجديد، ثم حرف في العربية فصار انكشاري.
ثم ارتقى هذا الجيش في النظام وزاد عدده حتى صار لا يعول إلا عليه في الحروب وكان هو من أكبر وأهم عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدوا واستبدوا بما جعلهم سببا في تأخر الدولة وتقهقرها. وكان ضباطهم يلقبون بألقاب غريبة في بابها ولكنها تدل على أن أولئك الجنود كانوا يعيشون من إنعامات السلطان وأنهم كأولاده فمن ألقابهم شوربجي (3) باشي وعشي باشي وسقا اغاشي وأوده باشي إلى غير ذلك. وهذه الألقاب كانت عندهم بمثابة التصنيفات الخاصة بالرتب العسكري، ثم إنهم كانوا يعظمون ويجلون القدور التي كانت تقدم إليهم فيها المأكولات فكان الانكشارية لا يفارقون تلك القدور حتى وقت الحرب وكانوا يدافعون عنها دفاع الجنود عن اعلامهم حتى كان يعتبر ضياعها في القتال أكبر إهانة تلحق بأصحابها العار والفضيحة. وكانوا إذا أرادوا إظهار عدم الرضا من بعض أوامر رؤسائهم يقلبون القدور أمام منازلهم. واستمرت هذه الفئة عونا للدولة على اعدائها حتى تغيرت احوالها وازداد طغيانها وانقلبت فوائدها مضرات فأبطلها السلطان محمود الثاني بعد أن قتل أغلبهم في يوم 16 يونيو سنة 1826 (10 ذي القعدة سنة 1241) لمقاومتهم اجراءات السلاطين وعصيانهم عليهم وتعديهم على حقوقهم المقدسة.
أما أورخان فأول عمل أجراه هو نقل مقر الحكومة إلى مدينة بورصة لحسن موقعها. وأرسل قواد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغرى ففتحوا أهم مدنها وفتح السلطان بنفسه مدينة أزميد ولم يبق من مدن الروم المهمة ببر آسيا إلا مدينة ازنيك فحاصرها وضيق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين فسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا. ومما جذب إليه قلوب الأهالي أن عاملهم باللين والرفق ولم يعارضهم في إقامة شعائر دينهم وأذن لمن يريد المهاجرة بأخذ كافة منقولاته وبيع عقاراته مع تمام الحرية في إجراءاته وأسس بهذه المدينة عدة مدارس وتكايا للفقراء والمعوزين وجعل أكبر أولاده المدعو سليمان باشا حاكماً عليها، ولم يلبث في هذا المنصب إلا قليلاً حتى عين صدراً أعظم بعد وفاة عمه علاء الدين واشتهر سليمان باشا بفتح عدة مدن.
وفي سنة 736ه (سنة 1336 م) ضم السلطان أورخان إلى ممالكه إمارة قره سي (4) لوقوع الخلاف بين ولدي أميرها بعد موته، ولولا عدم اتفاق الاخوين لما تمكن أورخان من ضمها إلا بعد معاناة الحرب والكفاح. وبعد ذلك اشتغل السلطان أورخان بترتيب داخليته وسن الأنظمة اللازمة لاستتباب الأمن بالداخل وانتشار العمران في البلاد وفتح المدارس وبناء الجوامع والتكايا، فمن آثاره أنه أسس مدرسة عالية في مدينة بورصة وأخرى في مدينة أزنيك وأجزل العطايا للشعراء والعلماء فاضاف بذلك خيرات السلم إلى فتوحات الحرب .
وبينما هو راتع في بحبوحة الأمن إذ أرسل إليه ملك الروم بالقسطنطينية (5) وإسمه (جان باليولوج) (6) في غضون سنة 1355 وفداً يطلب منه أن يمدّه بالمساعدة لصدّ إغارات (دوشان) (7) ملك الصِّرب الذي بعد أن جمع تحت سلطانه كافة قبائل الصقالبة الغربية وفتح بمساعدتهم بلاد البلغار زحف على مدينة القسطنطينية. وعرض ملك الروم على السلطان أورخان أن يزوجه ابنته مقابل هذه المساعدة، فأجاب السلطان طلبه وأرسل إليه عدداً عظيماً من جنوده لنجدته. لكن فاجأ الموت الملك دوشان قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية وبذلك تخلص الروم من شره وعاد العثمانيون إلى بلادهم.
ولما نزل العثمانيون بساحل أوروبا تحققوا ضعف مملكة الروم وما آلت إليه من الانحلال فأخذ السلطان أورخان في تجهيز الكتائب سراً لاجتياز البحر واحتلال بعض نقط على الشاطىء الأوروبي تكون مركزاً لأعمال العثمانيين في أوروبا، حتى إذا سنحت الفرص وساعدت المقادير حاصروا مدينة القسطنطينية براً وبحراً ودخلوها فاتحين.
وفي سنة1357 اجتاز سليمان باشا أكبر أولاد السلطان أورخان وولي عهده وصدر مملكته الأعظم بوغاز الدردنيل ومعه أربعون من أشجع جنوده تحت استار الظلام حتى إذا وصلوا إلى الضفة الاخرى قبضوا على ما كان بها من القوارب وعادوا بها إلى الضفة المعسكرة عليها جيوشهم فانتقل الجيش إلى ضفة أوروبا، وكان عدده ثلاثين الفا ، واحتل ميناء (تزنب). وساعدتهم الأقدار بسقوط جزء من أسوار جاليبولي (8) عقب زلزال شديد فدخلها العثمانيون بدون كبير عناء واحتلوا عدة مدائن أخرى منها ( أبسالا) (9) و(رودستو) (10) وغيرهما .
وفي سنة 1359 توفي سليمان باشا ولي عهد الدولة بسبب سقوطه من على ظهر جواده وصارت ولاية العهد بعده إلى أخيه مراد وتولى منصب الصدارة بعده الوزير خير الدين باشا الذي سبقت الإشارة إليه.
الملحق
(1) تقع أماسيا في شمال شرق الأناضول جنوب صامسون الكائنة في شمال تركيا على البحر الأسود . وهناك بلدة أخرى باسم أماسيا تقع الى الجنوب الشرقي من ازمير والثانية هي المقصودة هنا لأن أماسيا الأولى لم تكن بعد داخلة في ملك آل عثمان .
(2) يكي جري : تلفظ الكاف نوناً، وتكتب الكلمتان معاً هكذا : يكيجري ( بني تشري).
(3) شوربجي باشي : أي رئيس صانعي الحساء، وعلى اعتبار أن الجنود أكثر ما يكون أكلهم الحساء فان هذا اللقب يعني رئيس الطهاة وعشي باشي مثله ، وسقا اغاسي اي آمر السقاة وأوده باشي أي سيد الغرفة أو المكلف بغرفة السلطان .
(4) إمارة صغيرة تقع في غرب الأناضول جنوب بحر مرمرة وإلى الشرق في بحر إيجة.
(5) كانت مدينة رومة وما فتحته من الأقاليم المتسعة مشكلة بهيئة جمهورية من ابتداء وجودها الى سنة ٢٩ قبل المسيح فجعلها القائد الشهير ( أكتافيوس Octavius) حكومة امبراطورية وأطلق على نفسه لقب ( أوغسطس ) أي السامي القدر. واستمرت هذه المملكة الى سنة ٣٩٥ ميلادية حيث قسمها الامبراطور(طيودوس Theodose) بين ولديه الى مملكة رومانية شرقية وجعل مقرها بيزانطه التي سميت فيما بعد بالقسطنطينية وأقام عليها ابنه ( أركاديوس Arcadius ). ومملكة رومانية غربية جعل عاصمتها مدينة رومة واقام عليها ابنه الثاني ( أنوريوس Honorius ) ثم انقرضت الدولة الغربية سنة ٤٧٦ م بسبب الغارة المتبر برين عليها واستمرت الشرقية الى أن فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ م.
(6) أسرة باليولوك Paleologue أسرة بيزنطية خرج منها عدد من الأباطرة ما بين سنتي 1261 و1453 .
(7) هو اسطفن دوشان الملقب بالقوي ، ولد بمدينة اشقوادره ببلاد الأرنؤد سنة ١٣٠٨ وصار أمير البلاد الصرب وملحقاتها في سنة ١٣٢٢ وكان بعيد الأمال يطمح بنظره الى تكوين مملكة مؤلفة من جميع الصقالبة لفتح القسطنطينية وبقايا مملكة الروم الشرقية فاتحد مع جمهورية البندقية وبا في الامارات الصغيرة المجاورة له وكاد يتم له المقصود لولا (برز رند) بالقرب من اشقوادره حيث دفن في إحدى الكنائس المعتبرة لدى القوم. مدينة برزرند هي Prizen وتقع إلى الشرق من مدينة اشقودرة وهي اليوم في أراضي كوسوفو.
(8) كليبولي: مما يكسب هذه المدينة أهمية عظمى وقوعها على ضفة بوغاز الدردنيل الذي هو الممر الوحيد بين بحار أوروبا وبحر مرمرة، وهي تبعد عن مدينة أدرنة بمائة وأربعين كيلومتر تقريباً. وتقع في آخر مضيق الدردنيل في الجانب الأوربي. وقد كان لها « ولجنا قلعة ، الواقعة في أول مضيق الدردنيل في الجانب الشرفي شأن عظيم في الحروب ولا سيما في الحرب العالمية الأولى اذا أراد الحلفاء الثلاثة : انكلترا وفرنسا وروسيا ضرب الدولة العثمانية على رأسها وذلك بالاستيلاء على استانبول ففتحوا عليها ثلاث جبهات برية هي : جبهة القفقاس وجبهة مصر وجبهة العراق ، أما جبهة القفقاس فقد تركتها روسيا ، وأما مصر فقد كان الانكليز نشروا حمايتهم وساقوا إليها آلافا من الهنود وكان مركزهم في الخليج الفارسي قوياً بفضل الجنود الهندية وبفضل صداقتهم مع شيوخ العرب ولا سيما الكويت ونجد . وتفرغ الأسطولان الانكليزي والافرنسي لجهة الدردنيل البحرية ووقعت بين المتخاصمين معركة في البر والبحر لم يشهد مثلها من قبل واستبسل العثمانيون استبسالاً منقطع النظير فصدوا هذه الحملة وأغرقوا بعض القطع البحرية للعدو، ولكنهم تركوا في ميدان المعركة أكواماً من الجثث الهامدة وكان أخي الملازم محمد الخليل، الذي تخرج من المدرسة الحربية في تلك السنة، أحد اولئك الابطال الذي استشهدوا ورجع عمي سالماً. وقد نظم الأتراك انشودة وطنية تقول: في جنا قلعة وكليبولي أغلقنا الطريق على الأعداء. ولفظها التركي هو : (جنا قلعه كليبوليسد ايتدك دوشمنك يولي) (المحقق).
(9) ابسالا تقع في شمال مضيق الدردنيل في الجانب الأوروبي.
(10) رودستو Rodosto ويسميها الأتراك تكر طاغ أو تكفور طاغ وتقع على بحر مرمره من الجانب الغربي.
المراجع
تاريخ الدولة العثمانية العلية إبراهيم بك حليم