أقام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بمصر بصفة نائب للملك نور الدين محمود زنكي، يخطب له على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه الأمير نور الدين بالأمير الأسفهسلار “مُقدَّم العسكر” صلاح الدين، ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة. لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، وسحب السلطة من يد العاضد الخليفة الفاطمي شيئاً فشيئاً، وارتفع قدر صلاح الدين بين الناس في مصر، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه وخدموه، وكتب إليه نور الدين يُعنِّفه على قبول وزارة العاضد بدون مرسومه، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَيِّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فلم يلتفت صلاح الدين إلى ذلك، وجعل نور الدين يقول في غبون ذلك: “مَلَكَ ابن أيوب”. وأرسل إلى الملك نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته، فأرسلهم إليه، وشَرَطَ عليهم السمع والطاعة له، فاستقر أمر صلاح الدين في مصر وحفظ دولته بذلك وكَمِلَ أَمره وتمكَّنَ سُلطانه وقويت أركانه (2).
نحن مضطرون أن نقف قليلا نناقش تهمة يوجهها كثير من المؤرخين الى صلاح الدين وهي أنه منذ شعر بثبات مكانِه بمصر أثار غبوناً بينه وبين سيده وعزم على الخروج عليه ومحاربته إذا دعا الأمر. وما كان للإنسان أن يتهم حتى يكون عنده الدليل القاطع. واتهام صلاح الدين بالخروج على نور الدين وإثارة الوحشة بينه وبين سيده الذي يُجله والذي كان له عليه فضل التربية والعناية والتشجيع، هو اتهام خطير يجب على من يسوقه أن يكون من أشد الناس احتراساً في قوله. وفي النقاط الأربع التالية نذكر ما ارتكزت إليه تُهم المؤرخين ثم نرى مقدار قوّتها على ضوء المنطق ودلالة التاريخ وهي:
- بعد القضاء على الدولة الفاطمية سار صلاح الدين عام 1171 م – 567 ه، راغباُ في حرب الفرنجة فحاصر حصن الشوبك بفلسطين على مسيرة يوم من الكرك فعلم نور الدين بذلك، فأرادَ مساعدة صلاح الدين فسار من دمشق نحوه وكان صلاح الدين قد أوشك أن يفتح الحصن، فلما علم بمسير نور الدين نحوه، تركه ورجع إلى مصر وكتب إلى نور الدين يعتذر له باختلال الأمور في مصر فلم يقبل نور الدين ذلك الاعتذار وعزم على المسير الى مصر وإخراج ذلك المتمرد منها. فجمع صلاح الدين أهله وفيهم أبوه وخاله ومعهم سائر الأمراء واستشارهم فقال قائل تمتنع عليه وتحاربه. فقام نجم الدين أيوب والدُ صلاح الدين وقال قولاً معناه أنه لا يوافق وأنه أوَّلُ من يطيع نور الدين ويعصي ابنه إذا خرج عليه. وانفض المجلس على نصيحة أيوب أن يرسل صلاح الدين الى نور الدين يستميله ويطلب عفوه ويذعن له ويظهر الخضوع. ثُمَّ لما خلا أيوب بابنه قال له: “ما كان ينبغي أن تصنع ما صنعت فان الأخبار لا شك تبلغ نور الدين”، ثم قال له: “ألا فاعلم أننا لا نسلم البلاد له ولو أراد قصبة من قصب السكر لحارَبْناه عليها”.
- بناءً على المراسلات والمفاوضات بين صلاح الدين ونور الدين استقرَّ الأمر أخيراً على أن يقصد الاثنان حصن الكرك ويُحاربا هناك معاً فلما جاء العام التالي (أوائل عام 1173) زحف صلاح الدين إلى بلاد الشام وحاصر حصن الكرك، فلما بلغه مجيء نور الدين رفع الحصار عنه وعاد الى مصر. ثم أرسل الفقيه عيسى الهكاري (1) يعتذر لنور الدين بأنه ترك أباه على مصر فمرض وأنه يخشى أن يموت فتخرج البلاد من أيديهم وأرسل مع الفقيه من الهدايا والتحف ما يَجِلُّ عن الوصف.. فلم يقتنع نور الدين بذلك العذر واستوحش باطناً ولكنه لم يظهر شيئاً من تأثره.
- ما بين غزوة الشوبك عام 1171م الموافق ل 567 ه وغزوة الكرك في أوائل عام 1173 م الموافق ل 569 ه. قام صلاح الدين بإرسال أخيه الأكبر شمس الدولة توران شاه ليفتح النُّوبة لكي تكون لهم موئلا يلجؤون إليه إذا أجلاهم نور الدين عن مصر. ولكن تلك. الحملة لم تنجح لأنها وجدت البلاد صحراء لا منفعةَ منها.
- بعد غزوة الكرك في عام 1173 م الموافق ل 569 ه. لما رأى صلاح الدين أن النوبة لن توفر له موطأ قدم، فكر في تحضير ملجأ آخر، فأرسل يستأذن نور الدين في فتح اليمن، فأذن له نور الدين فأرسل أخاه شمس الدين توران شاه إليها وفتحها ونظم أحوالها وأصلح شؤونها واستقام أمرها للأيوبيين نحو خمسين عاماً (4).
هكذا يصوّر كثير من المؤرّخين موقف صلاح الدين من قائده نور الدين، وفي حقيقة الأمر أنَّ الحوادث التي يذكرونها تحوي كثيراً من الحقيقة، ولكن تأويلهم لا تبرره الظروف ولا يقبله العقل وتتابع الأحداث.
هنا أمر يستوقف النظر وهو أن المؤرخين الذين يذكرون تلك المواقف يتفقون في إيرادها وفي كثير من الأحيان تتفق ألفاظهم مع اختلاف في الإيجاز والإطناب وهذا ما يجعلنا نظن أن مصـدر القصة واحد، أَخَذَ عنه الجميع ولا يُستَبْعد أن يكون ذلك المصدر من جانب الشام أو جانب من كان مع نور الدين من الأمراء الحاقدين على صلاح الدين أمثال عَيْنِ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيِّ (2). أما نحن فنرى لكل تلك الحوادث تفسيرا آخر نعتقد أنه أكثر اتِّساقاً مع الأحداث التاريخية والشخوص المحيطة وشخصيات صلاح الدين ونور الدين.
- رجوع صلاح الدين عن قلعة الشوبك عام 1171م وعن قلعة الكرك عام 1173م كان أمرا طبيعياً ولولا تلك القصة التي يذكرونها عن اجتماعاته بأمرائه وما يعزونه إليهم من الأقوال لما كان هناك ما يُستغرب في عمل صلاح الدين. فالشوبك والكرك حصنان من أمنع الحصون في فلسطين وكان فتحهما من أكبر الفتوح التي تغنى بها المسلمون فيما بعد، فبعد جهود عظيمة ومحاولات مُضنية أخفقت مراراً، حيث كان يحميهما جماعة من المحاربين المستبسلين الذين يقاومون حتى لا يكون دونهم ما يقاومون به من مال أو أرواح. وكان صلاح الدين في عام 1171م قد انتهى لتوه من انقلاب كبير في مصر حيث أطاح بالخلافة الفاطمية التي جثت على البلاد لما يزيد على القرنين من الزمان وغيروا ملة الناس إلى الشيعية الإسماعيلية، وكان للفاطميين أتباع وأنصار يفكرون في الدفاع وإرجاع الأمر للفاطميين. لا سيما أنه كان إذ ذاك حديث عهد بثورة السودانيين ولا يأمن أن يترك مصر إلا قليلاً ففي سنة 1171م عندما حاصر الشوبك رأى أن الحصن لن يسلم إلا بعد أمد قد يطول وأن نور الدين قد يشترك في الحرب فيجعلها واسعة الدائرة فينتقل من ميدان الى آخر وهو الرجل الذي يحب الجهاد ويجعل حياته له، فآثر الرجوع وأرجأ فتح ذلك الحصن إلى وقت آخر ولو كان يخشى الاقتراب من نور الدين فما الذي دعاه أن يفكر بدايةً في غزو فلسطين؟ أما كان يؤثر من أول الأمر إبقاء الصليبيين بينه وبين من يخافه ويُجافيه؟
- أما في عام 1173م فقد كان صلاح الدين يشم خطرا في الجوّ لا تفوته حركة من حركات صديقه وعدوه على السواء. فلما دعاه نور الدين الى حصار الكرك لم يستطع أن يمتنع حتى لا يسيء نور الدين وهو قائده به الظن فذهب الى هناك في شوّال وكان هو السبَّاق وظل على الحصار وحده مدّة شهرين ثم أقبل نور الدين بعد ذلك متأخراً في ذي الحجة.
ورأى صلاح الدين أثناء ذلك امتناع الحصن عليه، ولعلَّ نور الدين لو كان اشترك معه من أوَّل الأمر لكان الحصن قد استسلم أو لكان على الأقل هناك تساوٍ في المجهود يبعث نور الدين على الاكتفاء وترك الحرب الى حين. فتأخر نور الدين كان معناه أنَّ غياب صلاح الدين عن مصر سيستمرُّ مدّةً أطول، خاصةً أن جيش نور الدين كان لايزال جديد الهِمَّة وهو يعرف أن نور الدين إذا بدأ الحرب فلن ينتهي منها إلا بعد أن يُبلي بلاءً عظيماً، ولعله ينتقل من ميدان إلى آخر، ومن حربٍ إلى أخرى. وبهذا لن يستطيع صلاح الدين أن يترك الحرب إذا هو بدأ فيها إلى جانب نور الدين لئلا يكون ذلك خذلاناً. فآثر أن يتبع من الأمر ما تُمليه الرجولة ويوجبه الحذر فأرسل في أدب معتذراً وأظهر خضوعه بما أرسل من هدايا وأنفذ رسوله رجلاً يُعرَف ما كان عليه من صفات ولا يَطعن أحد في إخلاصه وهو الفقيه عيسى الهكاري (1) وكان رجلا شجاعاً دَيِّناً فلو وجد شيئا على صلاح الدين من الخيانة لسيده لكان أفضى بذلك الى نور الدين إذ كان يعتقد أنه المجاهد في سبيل الله المخلص في غزواته القائم في عبادته الزاهد في دُنياه. ولم يكن نور الدين في قلوب الناس ولاسيما الفقهاء بأقل مما كان صلاح الدين بل إن الناس جميعاً كانوا أميل إلى الخضوع له واتباعه مما كانوا يميلون الى الفتى الناشئ. ولكن الفقيه لم يذكر إلا كل خير ولم نسمع عن نور الدين أنه قال إلا جواباً مُرضياً.
ولكن كان حول نور الدين جماعة من أمثال الياروقي الذين كانوا يرون صلاح الدين قد سلبهم مُلْكَ مِصر ولا بد أن هؤلاء كانوا يحاولون ما استطاعوا أن يُظهروا لنور الدين سوءَ نِيَّةِ منافسهم لعله يحقد عليه ويخلعه فيكون ذلك انتقاما لهم منه. فجعلوا يفسرون حركات صلاح الدين بما شاءت لهم نفوسهم المغضبة.
ولا يُستبعد أبدا بل نرى أن تفسير حركات صلاح الدين بعـدم رغبته في مقابلة نور الدين من وحي هؤلاء واشاعاتهم.
أما قصة المجلس الذي جمعه صلاح الدين بعد رجوعه عن الشوبك فإنها تشبه القصص التي نسمعها في الرِّوايات حتى أنها لتورد الألفاظ التي قالها أيوب لابنه في خلوة وهو ينصحه ألا يقول شيئاً في العلن إلا الخضوع لنور الدين ويؤكد له في نفس الوقت أنه لو أراد نور الدين قصبةً من مصر لحاربه عليها. وهل يعقل أن نجم الدين أيُّوب الحريص أن ينسى ما فعله الزنكيون حين التجأ هو وعائلته إليهم، وهل يمن أن يتم الاستماع إلى حديث خلى به الأب مع ابنه؟ ولم تصل تلك القصة لمسامع نور الدين محمود في الشام؟
على أن هناك ما يفيد أن سيرة ذلك المجلس وما وقع فيه لم تكن إلا خيالاً فإن ابن شـدّاد وهو القاضي بهاء الدين مؤلف سيرة صلاح الدين وصاحبه في مسيره وحروبه لم يذكر شيئا عن ذلك المجلس ولم يذكر والد صلاح الدين ولا نصيحته ولكنه نقل إلينا وهو مُصَدَّقْ فيما يقول سَمِعْتُه، قال سمعت صلاح الدين نفسه يقول: “كان بلغنا أنَّ نور الدين يقصدنا بالديار المصرية وكانت جماعة أصحابنا يشيرون بأن نُكاشف ونُخالف ونَشُق عصاه ونلق عسكره بمصاف نردّه إذا تحقق قصـده وكنت وحدي أخالفهم وأقول: لا يجوز أن يقال شيءٌ من ذلك” (3).
فالحقيقة هي إذا كان نور الدين تغير على صلاح الدين وأساء الظن به لأنه حُمِّل على أن يُؤَوِّلَ حركاته وأعماله بغير ما قصده، وعزم على السير إليه وصلاح الدين صابر لا ينوي مقاومة ولا يُظْهِر إلا الخضوع ولا يُبْطِن إلا الإخلاص. - وأبلغ من كل ذلك ذكر فتح النُّوبة والقول بأن ذلك كان مقصوداً به فتح أرض تكون ملجأً من نور الدين، والواقع أن تلك الحملة لم تكن إلا لتطهير جنوب مصر من بقايا الحرس السوداني الذي كان لا يزال منـه بقية ثائرة بالصعيد حتى تكون مصر كلها خاضعة لسلطة صلاح الدين من البحر الى أقصى حدودها الجنوبية.
وأما فتح اليمن فمن الغريب أن يستأذن صلاح الدين نور الدين لو كان عنده نية المخالفة ومن الغريب أن نور الدين يأذن له بإرسال الجيش الى هنالك لو كان يعتقد أن ذلك الرجل سوف يخونه.
فالواقع الذى نراه هو أن سوء ظن نور الدين لم يبدأ منذ عام 1171م بل إنه قد بدأ يظهر له من بعد موقعة الكرك وبعد السماح بحملة اليمن عام 1173م وأن ذلك الظن لم ينتُج إلا من سَعي أعداء صلاح الدين ومنافسيه، وأن صلاح الدين ظل الى نهاية الأمر لا يتأثر بما يُشاع عن تَغيُّر نور الدين عليه. وأما أبوه نجم الدين رحمه الله فلم يكن له من أمام ذلك المجلس المزعوم شيء بل نعتقد أنه عندما مات بمصر أثناء المدّة التي كان فيها صلاح الدين عند الكرك أو عائدا منها عام 1173م كان لا يفكر تفكيرا جدّياً في أن هناك سوء ظن بين ابنه صلاح الدين وسيِّده نور الدين.
المراجع
- (1) كتاب وفيات الأعيان، ابن خلكان، ص 516، تاريخ استرجاع الصفحة 19-02-2021.
- (2) البداية والنهاية، طبعة دار هجر، الجزء 16، صفحة 432
- (3) كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، سيرة صلاح الدين الأيوبي، ص 88.
- (4) صلاح الدين الأيوبى وعصره، محمد فريد أبو حديد، 1927.