خيانة الملك الكامل الأيوبي وتسليم القدس للصليبيين

أعلام لا توجد تعليقات

في 10 رمضان سنة 615 هـ (30 نوفمبر سنة 1218 م)، ضايق الإفرنج الصليبيون ثغر دمياط وفتحوه عنوة، وجعلوا الجامع كنيسة. فقام الملك الكامل ببناء قلعة حصينة بالقرب منها سماها المنصورة (وهي مدينة المنصورة مركز مديرية الدقهلية الآن) ليراقب حركات الإفرنج ويمنع تقدمهم داخل الديار المصرية. فلم يجسر الصليبيون على مهاجمتها ولبثوا ينتظرون المدد من بلادهم إلى أن ارتفعت مياه النيل في صيف سنة 618 هـ، فقطع المسلمون جسوره وطغى الماء على معسكر الإفرنج وحال بينهم وبين دمياط قاعدة أعمالهم. صاروا في ضيق شديد فأخذوا يخابرون الملك الكامل على أن يردوا إليه ثغر دمياط بشرط أن لا يفتك بهم، فقبل الكامل بذلك وسلمت إليه مدينة دمياط في 19 رجب سنة 618 هـ.

الأحداث الرئيسية بين الفترتين (618–626 هـ / 1221–1229 م):

1. تهدئة الصراع الداخلي بين الأيوبيين (618–624 هـ / 1221–1227 م):

  • بعد انسحاب الصليبيين من دمياط (618 هـ)، انشغل الملك الكامل بالصراع مع أخيه الملك المعظم عيسى (حاكم دمشق) وابن أخيه الناصر داود (حاكم الكرك)، حيث سعى كل طرف لتوسيع نفوذه على حساب الآخر.
  • حاول الكامل التحالف مع الصليبيين أحيانًا لموازنة قوة خصومه، مما أثار سخط العلماء والشعب.

2. وفاة الملك المعظم عيسى (624 هـ / 1227 م):

  • توفي الملك المعظم عيسى بشكل مفاجئ، فاستغل الكامل الفرصة لضم دمشق إلى ملكه، لكن ابن المعظم الناصر داود تصدى له بمساعدة الخوارزميين، مما أدى إلى حرب أهلية طاحنة بين الأيوبيين.
  • شن الملك الكامل حملات عسكرية على دمشق لانتزاعها من الناصر داود، لكن الأخير تصدى له بمساعدة الخوارزميين، مما أدى إلى:
    • تدمير مناطق زراعية وإضعاف الاقتصاد الشامي.
    • استنزاف موارد الطرفين، مما دفع الكامل للبحث عن حلفاء خارجيين، كالصليبيين أما الناصر فقد تحالف مع الخوارزميين المسلمين.

3. مفاوضات سرية مع فريدريك الثاني (625–626 هـ / 1228–1229 م):

  • وصل فريدريك الثاني (Frederick II) إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة (ألمانيا) إلى عكا سنة 625 هـ (1228 م) بجيش صغير، مُستغلًا انشغال الكامل بحرب الناصر داود.
  • بدأ مفاوضات مباشرة مع الكامل، وعرض عليه تحالفًا ضد خصومه المسلمين مقابل تسليم القدس دون قتال.
  • رغم معارضة الناصر داود والعلماء، وافق الكامل على الصفقة لضمان استقرار حكمه في مصر.

 كان فريدريك الثاني يخطط لاستعادة القدس دون قتال، مستغلاً انشغال الملك الكامل بالصراعات الداخلية مع أخيه الملك المعظم عيسى وابنه من بعده الناصر داود (صاحب دمشق)، ورغبت الكامل في تحييد الصليبيين لتركيز جهوده ضد منافسيه المسلمين. وقد سلم الملك الكامل الأيوبي مدينة القدس للإمبراطور فريدريك الثاني، وذلك خلال المرحلة الثانية من الحملة الصليبية السادسة (1228–1229 م)، عبر اتفاقية سلام عُرفت باسم معاهدة يافا  في ربيع الآخر سنة 626 هـ / 1229 م.

ومن الجدير ذكره أن فريدريك الثاني كان مثقفاً متأثراً بالحضارة الإسلامية، وتفاوض بلغة دبلوماسية ذكية، بينما رأى الكامل في التنازل عن القدس (التي كانت مُهمَلة عسكرياً) وسيلةً لتحقيق استقرار مؤقت وقد وصف ابن المؤرخ ابن الأثير هذه الاتفاقية بالفعلة الشنعاء.

بنود الإتفاق

  • تسليم القدس للصليبيين مع احتفاظ المسلمين بحائط البراق وإدارة الأوقاف الإسلامية داخل المدينة.
  • شمل التسليم مدن بيت لحم والناصرة وصيدا.
  • هدنة لمدة عشر سنوات.

مع أن الملك الناصر صلاح الدين بذل النفس والنفيس في استخلاصها منهم سنة 583 هـ بينما سلمها الكامل هو إليهم غنيمة باردة ليحارب ابن أخيه وينتزع بعض بلاده منه. وبعد أن تم تسليم القدس إلى الإفرنج بهذه الكيفية التي تلحق العار بالملك الكامل مدى الدهر، وتسود صحائف تاريخه، جمع جيوشه حول مدينة دمشق واستولى عليها في جمادى الأولى، فتمت له أمنيته ونال بغيته بعد أن ضحى البلاد التي صرف صلاح الدين عمره في استخلاصها من يد الإفرنج. ثم قضى الملك الكامل بقية عمره في محاربة إخوته وأقاربه. ومات في 21 رجب سنة 635 هـ، فعين الجند والأمراء بعده ابنه الملك العادل، فأتى إلى مصر لكن لم تطل مدته بل قبض عليه في 8 ذي القعدة سنة 637 هـ بدسيسة أخيه الملك الصالح أيوب. ووصل الصالح إلى مصر في 24 منه واستقر بها. واستمر الملك العادل مسجوناً إلى أن توفي سنة 645 هـ.

ردود الفعل الإسلامية على تسليم بيت المقدس (626-642 هـ / 1229-1244 م):

استقبل العالم الإسلامي نبأ تسليم الملك الكامل الأيوبي لمدينة القدس إلى الإمبراطور فريدريك الثاني خلال معاهدة يافا (626 هـ/1229 م) بصدمةٍ عميقة، حيث عمَّ الحزن والسخط من بغداد إلى القاهرة، ووصف المؤرخون الحدث بأنه “كارثة مُذلَّة” تتناقض مع انتصارات صلاح الدين الأيوبي.
يروي المقريزي في كتابه “السُلوك لمعرفة دول المُلوك” مشاهدَ الاحتجاج الرمزية التي اندلعت ضد الملك الكامل:

“فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر أئمة القدس ومؤذنوها إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان… واشتد الإنكار على الملك الكامل حتى كثرت الشفاعات له في سائر الأقطار”.

ولتخفيف الغضب الشعبي، حاول الملك الكامل تبرير فعله بالادعاء أنه سلَّم الصليبيين “الكنائس المهجورة والبيوت الخربة” بينما حافظ على المسجد الأقصى تحت السيادة الإسلامية. لكن هذه الحجج –كما يذكر ابن واصل في “مفرج الكروب”- لم تُقنع العلماء ولا العامة، خاصةً مع تحويل الصليبيين الأحياء المسيحية إلى قلاع عسكرية.

نهاية الاتفاقية واستعادة القدس:

ظلت المدينة تحت السيطرة الصليبية قرابة 15 عاماً، حتى نجح الجيش الخوارزمي الذي (تحالف مع الأيوبيين) في تحريرها بعد معركة دامية في (3 صفر 642 هـ / 11 يوليو 1244 م)، منهياً الوجود الصليبي الفعلي فيها، وفقاً لما أورده ابن كثير في “البداية والنهاية”.

 تداعيات الصراع

  • خسارة الشرعية: أثار تحالف الكامل مع الصليبيين غضب الناصر داود والعلماء، واتُّهم بـ”خيانة الإسلام”.
  • تقوية الخوارزميين: تحالف الناصر داود معهم مكَّنهم من التدخل في الصراع الأيوبي، مما مهَّد لاحقًا لاستعادتهم القدس سنة 642 هـ/1244 م.
  • تفكك الدولة الأيوبية: أصبحت الإمارات الأيوبية (مصر، دمشق، حلب، الكرك) كيانات متنافسة، مما سهَّل الغزو الصليبي لاحقًا.

المراجع

  1. المقريزي، تقي الدين أحمد، السُلوك لمعرفة دول المُلوك، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ج1، ص 228.
  2. ابن واصل، محمد بن سالم، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق حسنين ربيع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج5، ص 137.
  3. Carole HillenbrandThe Crusades: Islamic Perspectives, Edinburgh University Press, 1999, p. 221.
  4. ابن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، ج4، ص 90–110.

Loading

اترك تعليقاً