كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صارماً مع عمّال الدولة، حيث كان يرى أن الإمارة أو العمالة وظيفة يتفرغ لها الوالى دون أن يتاجرَ أو يعمل بالزراعة وليس له إلا راتبه، وقفل كل باب يتهرب منه الأمير أو الوالى من حسابه العسير، فإذا كان أميناً وثبت لديه أنه لم يَغُل من بيت المال أو غيره ولم يكسب حراماً قاسمه كل مازاد عن راتبه ما دام قد عمل فيه أما إذا خان أو استغل مال المسلمين صادر كل ما زاد، يستوي فى ذلك الصحابى وغيره، لأن مسالك الشيطان إلى ذلك كثيرة لذلك سدها بحزمه، وكذلك إذا لم يكن له عمل فى كسب مازاد عن راتبه وإنما كان بسبب عمله.
ولهذا كان عمر يحاسب الولاة أدق الحساب، يكتب أملاكهم قبل ولايتهم ويسألهم فيما نشأ من طارىء أموالهم، ويأمرهم إذا عادوا إلى أهلهم أن يدخلوا المدينة نهاراً، لينكشف ماعادوا به إليهم، ويقاسمهم كل درهم يربى على المحسوب من أرزاقهم، ويجرى ذلك على كل وال وعامل ذى أمائة، فلم يستثن منها أحدا قط ، ولم يُعرف والٍ قط سَلم من مصادرة أو حساب عسير.
وقد عزل أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله.
عزلُ أبو موسى الأشعري
دعا عمرُ أبا موسى الأشعري، فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما عندك؟، إحداهما تدعى عقيلة والأخرى من بنات الملوك؟
قال : أما عقيلة فجارية بيني وبين الناس (أي خادمه)، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء (أي حين أعتقها).
قال: فما جفنتان تعملان عندك؟ قال: رزقتني شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية .
قال : فما مكيالان بلغني أنها عندك ؟
قال : أما أحدهما فأوفي به أهلي وكتبتي ودّيني (لوفائه أكثر)، وأما الآخر فيتعامل الناس به. (لدقَّته)
قال : ادفع لنا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغل أو فاجرّ مُبل” ؛ ارجع إلى عملك عاقصاً بقرنك مُكتبيعاً بذنبك”، والله إن بلغني عنك أمر لم أُعدك.
فعمر بن الخطاب قاسمه مازاد عن رزقه دون غلول ومع هذا حذره، وحذره برغم ما عرف عنه من تقوى ونزاهة. وطلب إليه أن يعود إلى عمله حذرا خاضعا ذليلاً.
عزلُ أبو هريرة
ثم دعا أبا هريرة فقال له : هل علمت من حين أني أستعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ، ثم بلغني أنك آبتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟
قال: كانت لنا أفراس تناتجت. وعطايا تلاحقت.
قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأدّه.
قال: ليس لك ذلك.
قال: بلى والله وأوجع ظهرك! ثم قام إليه بالذرة فضربه حتى أدماه،
ثم قال: إيت بها.
قال : احتسبتها عند الله.
قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً، أجئت من أقصى حَجْر بالبحرين يجبي (جمع الضرائب) الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحُمر. وأميمة أم أبي هريرة.
وفي حديث أبي هريرة قال: لما عزلني عمر عن البحرين
قال لي: يا عدو الله وعدوّ كتابه، سرقت مال الله؟
قال : فقلت: ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدوّ من عاداها، وما سرقت مال الله.
قال: فمن أين أجتمعت لك عشر آلاف؟
قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت.
قال: فقبضها مني، فلما صليت الصبح أستغفرت لأمير المؤمنين.
فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟ قلت لا.
قال: قد عمل من هو خير منك يوسف صلوات الله عليه.
قلت: يوسف نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي، ويُضرب ظهري، وينزع مالي.
عزل الحارث بن وهب
قال: ثم دعا عمرُ الحارث بن وهب،
فقال: ما قلاص وأغبدّ بعتها بمائتي دينار؟
قال: خرجت بنفقة معي فتجزت فيها.
فقال: أما والله ما بعثناك لتنجروا في أموال المسلمين، أذها .
فقال: أما والله لا عملت عملاً بعدها ! قال: أنتظر حتى أستعملك!
المعاني
( 1 ) لا تُغل: لا تخون، والمبل الخبيث الداهية أو الغالب بحجته.
( ٢ ) القرن : من الشعر ، وعقصه: عقده والاكتساع بالذنب: إدخاله بين الأرجل وأراد بالعبارتين: الذلة والمهانة.
(٣) يجبي: من الجباية أي جمع الضرائب.
المراجع
- العقد الفريد، ابن عبد ربه الأندلسي.
- أبو هريرة الصحابي المفترى عليه لمحمد عبدالله حواء، مؤسسة دار الشعب