نشرت الحكومة التركية الكثير من الوثائق من أرشيفها العثماني خلال السنوات القليلة السابقة. من بين تلك الوثائق أرشيف عن فلسطين وفي هذا المقال سنتناول بعض المخطوطات والرسائل من الأرشيف العثماني وغيرها التي تتحدث عن فلسطين من أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
في يوليو (تموز) 1872 م، أنشأت الحكومة العثمانية منطقة إدارية مستقلة مقرها القدس تخضع للحكم المباشر من اسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية، مما رفع مكانة المدينة إلى عاصمة إقليمية وقد سميت “متصرفية القدس الشريف ذات الإدارة المستقلة“.
ويوضح مدير الأرشيف العثماني في إسطنبول أوندر باير أن الحكم العثماني في فلسطين قد بدأ بعد انتصار السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق في 24 أغسطس/آب 1516 التي أصبحت القدس فيما بعدها أرضا عثمانية، حيث دخلها السلطان سليم في 29 كانون الأول ديسمبر من العام 1516. وقد حكم العثمانيون فلسطين ل 401 عاماً شهدت في معظمها استقراراً سياسيا واقتصادياً.
قال المؤرخ يوهان بوسو عن التغيير الإداري في القدس: “لا نعرف كيف كان رد فعل السكان المحليين”. وأضاف أن “توثيق الرأي العام المحلي مُجزّأ ولا يعكس حقيقة الرأي العام”.
ولكن وسط 150 مليونًا من بعض الوثائق المحفوظة في الأرشيف العثماني في اسطنبول، يكمن عدد من الأدلة المهمة التي تشير إلى ترحيب الناس بذلك التغيير، بما في ذلك مذكرة صدرت في يوليو (تموز) 1872 موقعة من قِبل ستين من أبرز الشخصيات الإسلامية في القدس.
ستساعد هذه الوثيقة وغيرها المؤرخين على تجميع الأجزاء الضائعة التي ذكرها يوهان. هذه الوثائق تشير إلى لمحة نادرة عن المشاعر السائدة في الوقت الذي ناضل فيه المؤرخون منذ فترة طويلة للعثور على مصادر تتحدث عن المواقف والهويات والولاءات الشعبية في المدينة المقدسة.
في رسالةِ شُكر موجهة إلى خليفة المسلمين السلطان عبد العزيز الأول حامي حمى الإنسانية والمدافع عنها، كتب وُجهاء القدس “إن فصل منطقة القدس عن ولاية سوريا كان من بين أعظم المشاريع” التي قامت بها الحكومة العثمانية وذلك في العام 1872.
وشدد وجهاء القدس عبر الرسالة التي خُطّت بخطٍ عربيٍ جميل، على أنه “لا يمكننا التعبير عن مدى امتناننا لفصل القدس“، التي كانت محل أمل لفترة طويلة لصالح الجميع. كانت النخبة المقدسية مهيأة لشغل مناصب عليا في سلّم المناصب الرفيعة لتصاحب مكانة المدينة الرفيعة.
لم تلعب القدس مثل هذا الدور السياسي المهم في الدولة العثمانية منذ دخولها تحت السلطنة العثمانية في أوائل القرن السادس عشر. حيث أنها كانت مصب اهتمام ديني كونها أول قبلة للمسلمين وتحوي المسجد الأقصى وهو رمز إسلامي هام يأتي في المرتبة الثالثة بعد مكة والمدينة، ونذكر هنا أن السلطان سليمان القانوني قد زار القدس وقام بتشييد سور القدس الحالي وأنشأ أيضاً برك سليمان في بيت لحم لتمد القدس بالمياه عبر شبكة مياه حديثة.
لكن لماذا رفع العثمانيون مكانة القدس سياسياً في هذا الوقت بالذات. للعلم فإن محمد علي حاكم مصر انشق عن العثمانيين و فرض الهيمنة المصرية على فلسطين عبر احتلال عسكري بين عامي 1831-1840 أي لمدة تسع سنوات شهدت محاولات تهويد حثيثة عبر القناصل الأوروبيين. ومع ازدياد الهجرات اليهودية إلى فلسطين والحماية من القناصل الأوروبيين استشعرت الأستانه بالخطر عبر رسائل كانت تصلهم من فلسطين. وفي القرن التاسع عشر خسر العثمانيون الكثير من أراضي السلطنة العثمانية نتيجة لحركات الاستقلال الوطني في اليونان والبلقان، وانشقاق محمد علي في مصر، والاحتلال الأجنبي في القوقاز. كل تلك المعطيات والحركات الانشقاقية والهجرات اليهودية جعل الأستانة تنظر بعين القلق للقدس واعطائها اهتماماً سياسياً يقربها من صانع القرار في اسطنبول.
تقسيم فلسطين العثمانية إدارياً
المرسوم الصادر في العام 1872 وضع مدينتي نابلس وعكا تحت سلطة القدس بدلاً من دمشق. فمنطقة القدس الإدارية تمثل الأرض المقدسة الموحدة الخاضعة للحكم المباشر من حاكم مُعين في اسطنبول، وذلك لإعاقة أي اختراق غربي للأراضي المقدسة.
ومن المثير للاهتمام أن حدود المنطقة الجديدة كانت مشابهة بشكل ملحوظ لحكومة فلسطين التي أنشأها المحتلون البريطانيون في أعقاب الحرب العالمية الأولى. في الواقع، حتى أن العثمانيين ناقشوا إعادة تسمية منطقة القدس الإدارية بـ “فلسطين” في ثمانينيات القرن التاسع عشر ، لكنهم أبوقوا على سم القدس لقيمتها الدينية.
لم يمنع ذلك سكان المنطقة من الخلط بين “منطقة القدس” و “فلسطين”.فالكثير من المثقفين والسياسيين والمربين البارزين خلطوا بين المصطلحين أو استخدموهما بالتبادل. ونذكر هنا أن محافظ منطقة القدس بين العامين 1911-192 قد كتب خطاباً إلى صحيفة فلسطين الأسبوعية التي كانت تصدر في يافا واصفاً نفسه ب “حاكم فلسطين”.
وفي مثال آخر على استخدام اسم فلسطين، فقد عرض كتاب الجغرافيا العثماني الذي صدر عن السلطنة بشكل بارز كلمة فلسطين على المنطقة المقابلة لمنطقة القدس.
لكن على ما يبدو أن مرسوم إتباع عكا ونابلس لإدارة القدس الذي وحد فلسطين إدارياً لم يدم سوى بضعة أسابيع حيث أن إدارة عكا ونابلس أُعيدت إلى دمشق في أواخر يوليو من العام 1872، وبقية القدس وحدها تابعةً لإدارة اسطنبول مباشرة. هذا القرار تأثر برأي أن توحيد فلسطين إدارياً قد يجذب انتباه أوروبا ويزيد من أطماعها في الأراضي المقدسة.
كما دافع السكان اليهود والمسيحيون في المدينة عن قرار إخضاع عكا ونابلس للحكم من القدس ، بينما احتفل القناصل الأوروبيون بالوحدة الإدارية “الفلسطينية” ، كما أطلقوا عليها.
هذا برر البيروقراطيين العثمانيين المعارضين للتعديل ، الذين ادعوا أن توحيد جميع الأماكن المقدسة في وحدة إدارية واحدة لن يعيق اختراق أوروبا للإمبراطورية ولكنه يجذب اهتمامًا أجنبيًا غير مرغوب فيه.
وهكذا، تم إلغاء المرسوم بعد أسابيع قليلة فقط. بحلول أواخر يوليو 1872 ، أعيد عكا ونابلس إلى دمشق – في حين ستحتفظ القدس بوضعها المرتفع خاضعًا لسلطة اسطنبول بدلاً من دمشق.
كل ما نعلمه أن بعض أركان الإدارة العثمانية استخدموا نفوذهم من أجل إبطال قرار ضم نابلس وعكا إلى إدارة القدس، لا نعلم على الحقيقة ما هي الأسباب سوى ما تذكره الكتب من أن ترحيب القناصل الأوروبيين بالضم قضّ مضاجع الإداريين العثمانيين بالرغم من أن سكان فلسطين رحبوا بالقرار.
لم يَلق إلغاء قرار ضم نابلس وعكا لإدارة القدس قبولاً من المقدسيين فقد أرسل عدد من وجهاء المدينة وتجارها عريضة أخرى للحكومة المركزية شجبت التغيير. حيث ذكروا أن إخضاع نابلس وعكا إلى القدس (بدلاً من دمشق) جاء لتحسين التجارة في السلطنة وتعزيز العلاقات التجارية القوية بالفعل بين المقدسيين و النابلسيين، أو هكذا ادعى المقدسيون.
وبعد ذلك بيومين فقط أرسل حوالي عشرة من أهل يافا مذكرة احتجاج أخرى إلى السلطان في 29 يوليو 1872 ، وانتقدوا القرار أيضاً.
“إن أهل يافا الذين ينتمون إلى منطقة القدس يوافقون على أن مدينتنا هي العاصمة التجارية للقدس والبلقاء (نابلس)”. وزعموا أن عودة منطقة نابلس إلى دمشق ستعيق فرصهم التجارية مع الأراضي الشمالية لعكا ونابلس، في حين أنه سيكون لها عواقب مالية سلبية على الخزانة العثمانية.
لكن على ما يبدو أن أهالي نابلس رأوا الأمور بشكل مختلف. عندما وردت أنباء في 23 يوليو 1872 أن منطقتهم أعيدت مرة أخرى إلى سوريا، أرسلت مجموعة من “الأعيان وكبار الشخصيات والتجار في نابلس” برقية في نفس اليوم إلى اسطنبول تشيد بقرار الحكومة.
كان لأهالي منطقة نابلس وعكا علاقات أقوى مع المدن الشمالية، وبالتالي فضلوا أن يظلوا خاضعين للحكم من عاصمتهم الفكرية والثقافية والتجارية دمشق بدلاً من مدينة القدس الصغيرة.
لم تكن المناورات والالتماسات التي أعقبت إنشاء متصرفية القدس الشريف عام 1872 تدور حول رغبة وطنية في توحيد فلسطين جغرافياً. مذكرات الشكر ومذكرات الاحتجاج هذه كانت حول التأثير السياسي والمصالح التجارية حيث أن السكان كانوا متساويين أمام الباب العالي (مقر الحكم في اسطنبول) في الحقوق والواجبات ولم يكن هناك أي نزعات وطنية لمنطقة جغرافية معينة.
ظهور الهوية الوطنية الفلسطينية كان قد بدأ مع بديات القرن العشرين حيث انهارت الخلافة الإسلامية العثمانية حين تم خلع السلطان عبد الحميد الثاني، ومن ثم الاحتلال (الانتداب) البريطاني لفلسطين حيث تم فصلها جغرافياً عن محيطها العربي الاسلامي لتسهيل تسليمها لليهود.
المراجع