أحمد بن طولون
هذه القصة حدثت في عهد أمير مصر ومؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام أبو العباس أحمد بن طولون، من الفترة (254 هـ/868 – 270 هـ/884)، كان أحمد بن طولون والي الدولة العباسية على مصر، ثم استقل بمصر عن الخلافة العباسية، فكان أول من يستقل بمصر، كما استطاع القضاء على الحركات المعارضة له، وتمدد باتجاه الشام بعد تكليف الخليفة أبو العباس أحمد المعتمد على الله له إخماد الثورات في الشام.
أحمد اليتيم
حّدث هذه القصة أحد المطّلعين على حاشية أحمد بن طولون وابنه من بعده. فقال المُحدِّث: أن أحمد بن طولون وجد عند سقايته (مشرب الماء) طفلاً مطروحًا، فالتقطه ورباه وسماه أحمد واشتُهر باليتيم، فلما كبر أحمد ونشأ كان أكثر الناس ذكاءً وفِطنةً، وأحسنهم لباساً ومظهراً، فأخذ أحمد بن طولون يرعاه ويعلمه حتى تهذب وتمرن، فلما حضرت أحمد بن طولون الوفاة أوصى ابنهُ أبا الجيش خمارويه برعايةِ أحمد اليتيم من بعده.
أبو الجيش بتبنى أحمد اليتيم
فلما مات أحمد بن طولون أحضره الأمير أبو الجيش “خمارويه بن أحمد بن طولون” إليه، وقال له: أنت عندي بمكانة أرعاك بها، ولكن عادتي أني آخذ العهد على كل من أصرفه في شيء من شؤوني أنه لا يخونني فعاهده أحمد اليتيم على ذلك، ثم حكمه في أمواله وقدمه في أشغاله، فصار أحمد اليتيم مستحوذاً على المقام حاكماً لحاشية الأمير خمارويه الخاصةِ منها والعامه.
أحسن الأمير أبو الجيش بن طولون إلى أحمد اليتيم وقدَّمه لخدماته ونصائحه وحكمته ونجاحه في الإدارة، فاعتمد عليه في أمور بيوته.
واقعة الزنى وإخلاص أحمد
قال له يوما: يا أحمد امض إلى الحجرة الفلانية ففي المجلس حيث أجلس سُبحَةُ جَوهر، فائتني بها، فمضى أحمد، فلما دخل الحُجرة وجدَ جاريةً من مُغَنِّيات الأمير وحَظاياه (أي مُقدّمةٌ في المنزلة) تواقعُ (تُمارس الجنس) شاباً من الفراشين موثوقٍ ومقرَّبٍ من الأمير، فلما رأياه خرج الشاب وجاءت الجارية إلى أحمد وعرضت نفسها عليه ، ودعته إلى قضاء وَطره (أي أن يزنيَ بها) حتى لا يُفشي سرّها للأمير، فقال لها: معاذ الله أن أخون الأمير وقد أحسن إليّ وأخذ العهد عليّ، ثم تركها، وأخذ السُّبحة وانصرف إلى الأمير.
بقيت الجارية في خوفٍ شديد من أن يفضح أحمد اليتيم أمرها للأمير، لكنها لم تلاحظ تغير الأمير فأقامت أيامًا لم تجد من الأمير خمارويه أيّ تغيير معها فبقي يلاطفها ويواقعها.
الأمير يُهمل الجارية
وفي أحد الأيام اشترى الأميرُ جاريةً حسناءَ جميلة فقدمها على حظاياه، وغمرها بعطاياه، وانشغل بحبها ومواقعتها عمن سواها، وأعرض لشغفه بها عن كل من عنده حتى كاد لا يذكر جاريةً غيرها. أما تلك الجاريةُ الزّنانيةُ، حين أعرض عنها الأمير اشتغالا بالجارية الجديدة، وصرف لبهجة محاسنها وكثرة آدابها وجهه من ملاعبة أترابها، وشغلته بعذوبة رضابها عن ارتشاف رضاب أضرابها
الجارية تكيد لأحمد اليتيم
وكانت تلك الجارية الأولى (الزّانية) لجمالها مُتأمرةً على حظوتها عند الأمير لا تخاف من وليه ولا نصيره، فكبر عليها إعراضه وانشغالهُ عنها ونسبت ذلك إلى أحمد اليتيم اعتقاداً منها أنه قام بإفشاء سرِّها، فدخلت على الأمير وقد ارتدت من الكآبة بجلباب نكرها، وأعلنت بالبكاء بين يديه لإتمام كيدها ومكرها، وقالت: إن أحمد اليتيم راودني عن نفسي.
خطة أبو الجيش لقتل أحمد اليتيم
لما سمع الأمير ذلك الإدعاء استشاط غضباً، وهمَّ بقتل أحمد اليتيم، ثم عاودته الحكمةُ، فتأنى في فعله، ونادى خادمًا من خاصّته يتقُ به، وقال له: إذا أرسلتُ إليك شخصاً ومعه طبق من ذهب، وقلت لك على لسانه املأ هذا الطبق مسكاً، فاقتله واجعل رأسه في الطبق، وأحضرهُ مغطى .
ثم إن الأمير أبا الجيش جليسٌ في مجلس سمر، ومعه ندماءه الخواص، وأدناهم لمجلسٍ قربه، وأحمد اليتيم واقفٌ بين يديه آمنٌ في سربه لم يخطر بباله شيء، فلما مثل بين يدي الأمير، وأخذ منه الشراب شرع في التدبير، فقال: يا أحمد خذ هذا الطبق وامض به إلى فلان الخادم، وقل له: يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكاً، فأخذ أحمد اليتيم الطبق ومضى.
تقدير رب العالمين ونجاة أحمد اليتيم من الموت
وفي طريقه للخادم لقي بالمُغنين وبقيةِ النّدماء، والخواص، فقاموا إليه وسألوه الجلوس معهم، فقال: أنا ماضٍ في حاجة للأمير أمرني بإحضارها في هذا الطبق، فقالوا له: أرسل من ينوب عنك فى إحضارها وخذها أنت وادخل بها على الأمير، فأدار عينيه، فرأى الفتى الفراش الذي كان مع الجارية، فأعطاه الطبق، وقال له: امض إلى فلان الخادم وقال له: يقول لك الأمير املأ هذا الطبق مسكاً.
مضى ذلك الفراش (الخائن) إلى الخادم، فذكر له ذلك، فقتله، وقطع رأسه وغطاه وجعله في الطبق، وأقبل به، فناوله لأحمد اليتيم، فأخذه وليس عنده علمٌ بشيءٍ مما حصل، فلمّا دخل به على الأمير دُهِش الأمير وكشف عن الطبق وتأمله وقال: ما هذا؟ فقص عليه خبره وقعوده مع المغنين وبقية الندماء وسؤالهم له الجلوس معهم، وما كان من إنفاذ الطبق، وإرساله مع الفراش، وأنه لا علم عنده غير ما ذكره .
قال الأمير: أتعرف لهذا الفراش خبراً يستوجب به ما جرى عليه؟
فقال أحمد: أيها الأمير إن الذي تم عليه بما ارتكبه من الخيانة، وقد كنت رأيت الإعراض عن إعلام الأمير بذلك، وأخذ أحمد يحدثه بما شاهده وما جرى له من حديث الجارية من أوله إلى آخره، لما أنفذه لإحضار السبحة الجوهر.
فدعا الأمير أبو الجيش بتلك الجارية واستقررها، فأقرت بصحة ما ذكره أحمد، فأعطاهُ إياها، وأمره بقتلها، ففعل، وازدادت مكانة أحمد عنده، وعلت منزلته لديه وضاعف إحسانه إليه.
المراجع
- المستطرف في كل فن مستظرف، شهاب الدين الأبشيهي، دار مكتبة الحياة، 2008.
- سيرة أعلام النبلاء، الجزء الثاني، للحافظ الذهبي، ص124-126.
- قصص العرب، الجزء الأول، محمد أحمد جاد المولى، المكتبة العصرية، 1939.
- كتاب ثمرات الأوراق في المحاضرات، ابن حجه الحموي، ص256، الناشر: مكتبة الجمهورية العربية، مصر عدد الأجزاء: 2.