“قد كان بجوارنا الوزير المكرم المجاهد في سبيل الله خير الدين وناصر الدين وسيف الإسلام على الكافرين، علم بأحوالنا وما نجده من عظيم أهوالنا… فاستغثنا به فأغاثنا، وكان سبب خلاص كثير من المسلمين من أيدي الكفرة المتمردين، نقلهم إلى أرض السلام وتحت إيالة طاعة مولانا السلطان” (1)
هذا جزء من رسالة بعث بها أهالي “غرناطة” إلى السلطان سليمان القانوني ابن السلطان سليم الأول في العام 1541م.
لقاء عروج بربروس بالسلطان سليم الأول
استدعى السلطان العثماني سليم الأول رحمه الله قائد بحري فذ اسمه عروج بربروس (2)، وأطلعه على رسائل الاستغاثة التي بعث بها مسلمو الأندلس شيشتكون من بطش الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش التي ما فتئت تنكل بهم لتحويلهم إلى المسيحية الكاثولكية، فأوكل إليه سليم الأول مهمة شبه مستحيلة، وأمده بخطةٍ استراتيجيةٍ لهذه المهمة.
المهمة المستحيلة
- أولاً: الإبحار من أقصى شرق البحر الأبيض المتوسط في الأناضول إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس و محاربة أساطيل الجيوش الصليبية مجتمعة وهي عبارة عن جيوش وأساطيل إسبانية وبرتغالية وإيطالية وسفن القديس يوحنا.
- ثانياً: اختراق الحصون البحرية الممتدة حول الأندلس و الرسو في إحدى المدن الأندلسية الساحلية المحتلة من قبل القشتاليين الصليبيين.
- ثالثاً: تدمير الحامية البحرية الإسبانية لتلك المدينة وشل قوة العدو الدفاعية و التقدم نحو اليابسة وخوض حرب شوارع ضد القوات البرية القشتالية الإسبانية.
- رابعاً: تحرير المدينة الأندلسية من جديد ورفع راية الإسلام العثمانية على قلاعها و مباغتة الكنائس بصورة مفاجئة للحيلولة دون هروب القساوسة الكاثوليك الذين يعرفون أماكن غرف التعذيب السرية.
- خامساً: البحث في جميع أقبية الكنائس بشكل فوري قبل أن يتم تهريب الأسرى المسلمين والتمكن من العثور على الغرف السرية التي يُعذّب فيها المسلمون الأوروبيون.
- سادساً: بعد العثور على غرف التعذيب السرية يتم تحرير المسلمين مع مراعاة عدم نقلهم من الأقبية حتى غياب الشمس لتجنب إصابة الأسرى بالعمى نتيجة عدم رؤيتهم للشمس منذ سنين.
- سابعاً: يتم نقل الأسرى حملًا إلى السفن الإسلامية العثمانية، مع مراعاة الحالة البدنية الصعبة التي وصلوا إليها، مع تجنب تعرض جلودهم المهترئة للتمزق أثناء الحمل.
- ثامناً: إخلاء المدينة على وجه السرعة، مع مراعاة أن لا تستمر العملية منذ الرسو في الميناء وحتى الإقلاع أكثر من 6 ساعات لتجنب الاشتباك مع قوات المدد التي ستصل للعدو الآتية من المدن المجاورة.
- تاسعاً: الإبحار تحت جنح الظلام وشل حركة العدو البحرية أثناء رحلة العودة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العودة هذه المرة لن تكون نحو الأناضول، وإنما ستكون نحو الجزائر من طريق آخر لإسعاف الأسرى والجرحى بالسرعة القصوى من جهة، و لخداع بحرية العدو من جهة أخرى.
نجح القائد عروج بربروس بتنفيذ هذه المهمة، وقد استعان بأخوته وكرر غاراته مرةً بعد الأخرى حتى ذاع صيته في حوض البحر الأبيض المتوسط كقائد مغوار، وتناقلت شوارع أوروبا الكاثوليكية قصصه البطولية, بدأت الأساطير تكتب عن هذا البحار العثماني الذي وصف بأنه يبحر كالشبح المرعب فلا يستطيع أحد الوقوف بوجهه، أما الأندلسيون المسلمون فقد أسمَوْه (بابا أروج) أو (بابا أروتس) أي (الأب عروج) في لغة الأندلسيين الأوروبيين، وذلك كتعبير عن احترامهم وتقديرهم لهذا البطل الذي خلّصهم من ويلات محاكم التفتيش، فحرف الإيطاليون (بابا أروتس) إلى (بَربَروس) وتعني بالإيطالية الرجل صاحب اللحية الحمراء.
اصطحب عروج بربروس معه في جهاده إخوته اسحق وإلياس وخسرف (خير الدين). فاستشهد إلياس رحمه الله في جهاده وقام خير الدين بمحاربة الحكام العملاء مع الصليبيين الأسبان في بلاد الجزائر، بينما سقط عروج في أسر فرسان القديس يوحنا في جزيرة “روذوس” في بحر إيجه، ولكن البطل عروج وبعملية خيالية استطاع أن يحرر نفسه، ثم قام بالتسلل بحرًا إلى إيطاليا، وهناك استولى على سفينة من سفن الجيش الصليبي بعد أن قتل كل من فيها من الجنود الصليبيين، ثم أبحر بها وحده من إيطاليا إلى مصر، فقابل السلطان المملوكي قنصوة الغوري، فعينه الغوري قائداً للبحرية المملوكية، ومن ميناء الإسكندرية انطلق المجاهد الفذ عروج مرة أخرى ليلقى أخاه خير الدين ويواصلان معًا الجهاد في سبيل الله بسفنهم القليلة المتواضعة، فأصبح اسم ” الأخوان بربروسا ” اسمًا يرعب سفن الصليبيين الغزاة في كل بحار الأرض.
ولكن أحد الخونة من الحكام الموالين لإسبانيا الصليبية آنذاك قام بمساعدة الغزاة في حصار مدينة “تلمسان” الجزائرية، ولكن القائد البطل عروج وجنوده من الأتراك والجزائريين أبوا الهروب أو الإستسلام، وفضلوا أن يلقوا الله شهداءً في سبيله، فقاتل عروج بكل بسالة بيدٍ واحدة بعد أن فقد يده الأخرى وهو يجاهد في سبيل الله لانقاذ نساء المسلمين وأطفالهم، ولمّا علم الإسبان أن القائد عروج بنفسه هو الذي يقاتل، بعثوا بالإمدادات العسكرية لتحاصر هذا البطل، الذي سقط شهيداً في نهاية المطافز
لم يكتفِ الغزاة الصليبيون بقتل البطل عروج وإنما قطعوا رأسه وأخذوها ليطوفوا بها في مدن أوروبا الكاثوليكية التي دُقت بها أجراس الكنائس احتفالًا كلما مر رأس القائد الذي أذاقهم أشد الهزائم. ومع استشهاد عروج حمل شقيقه القائد البطل خير الدين بربروسا الراية وصمم على الثأر لدم أخيه. فجهز سفنه واتجه بها مباشرةً إلى تونس فدمر السفن الإسبانية هناك، وحررها من الصليبيين وعملائهم من العرب، ثم توجه بجنوده العثمانيين الأمازيغ والعرب والأتراك فحرر الجزائر، ولم يكتفِ بذلك بل قام باحتلال “جزر البليار” الإسبانية بعد أن دمر الأسطول الإسباني هناك.
ولمّا سمع البابا (بولس الثالث) في روما بانتصارات هذا القائد المسلم أعلن من “الفاتيكان” حالة النفير العام في أرجاء أوروبا الكاثوليكية، فتكوّن تحالف صليبي ضخم سميّ بالعصبة المقدسة من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري أسطوري هو أعظم قائد بحري عرفته أوروبا في القرون الوسطى وهو (أندريا دوريا) وذلك لإنهاء السيطرة العثمانية في البحر الأبيض المتوسط.
تألفت القوات العثمانية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي فقط. والتقى الأسطولان في معركة “بروزة أو بريفيزا” في (4 من جمادى الأولى 945 ه الموافق ل 28 من سبتمبر 1538م). بالرغم من تفوق القوات الأوروبية الصليبية بالعدة والعتاد، إلا أن بربروسا انتصر انتصارًا كاسحاً، ودمر خير الدين بربروسا الأسطول الأوروبي المتحالف تدميرًا كليًا، فهرب أسطورتهم “أندريا دوريا” من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات.
وبعد هذا الانتصار العثماني الضخم، عمَّت حالة من الفزع والهلع أرجاء الإمارات الصليبية، وأصبحت البحرية الإسلامية العثمانية سيدة البحر المتوسط بلا منازع لثلاثة قرون متَّصلة، واستقبل السلطان العثماني سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول خبر هذا النصر بالسجود شكرًا لله بعد أن أتم ما بدأه والده المجاهد سليم الأول رحمه الله من إنقاذ المسلمين في الأندلس، فقام بتعيين خير الدين بربروسا أميرًا عامًا للأساطيل الإسلامية العثمانية المجاهدة في كل بالبحار.
ولكن هل اكتفى هذا العملاق بذلك النصر الذي حققه؟
لم يكتفِ بربروسا بما صنعه من مجد للإسلام، فقام مباشرةً بحملات إضافية لإنقاذ ما تبقى من المسلمين في الأندلس من تعذيب محاكم التفتيش، فأبحر في البحر الأبيض المتوسط جيئةً وذهابًا لنقل اللاجئين المسلمين الأندلسيين، فأنقذ وحده 70 ألف مسلم ومسلمة بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ، حتى كان أهل الأندلس هم من أطلق عليه اسم (خير الدين) بدلًا من اسمه الحقيقي (خسرف) عرفانًا له بالجميل.
المراجع
(1) استجابات إسلامية لدعوات أندلسية، محمد حسن عقيل صفحة 104، مكتبة دار الأندلس الخضراء للنشر.
(2) هو قائدٌ عثماني من أب ألباني وأم أَندلسية هربت بدينها من إرهاب محاكم التفتيش الصليبية في أقبية كنائس إسبانيا، كانت تقص عليه وعلى إخوته قصص التعذيب البشعة التي تعرض لها أخوالهم في الأندلس، وتروي لهم حكايات المقاومة الشعبية الإسلامية الباسلة لمسلمي الأندلس الذين رفضوا تغيير دينهم، فربتهم على طاعة الله وحب الجهاد في سبيله.